مــا سـر كآبـة هــذا الرجـــل؟

في إنجاز نادر، ينجح كاتب سير ذاتية في الوصول إلى نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني» لكنه لا يتوغل كثيرا في نفسيته
مــا سـر كآبـة هــذا الرجـــل؟
كتب: إيفان توماس
قد يكون ديك تشيني رجلا قليل الكلام، كما يكتب المؤلف ستيفن أف هايز، لكن يمكن أن يتحمس نائب الرئيس عند مناقشة سيناريوهات يوم الهلاك. في كتابه الجديد في سلسلة السير الذاتية Cheney: The Untold Story of America''s Most Powerful and Controversial Vice President (تشيني: القصة غير المروية لنائب الرئيس الأمريكي الأكثر نفوذا وإثارة للجدل) [578 صفحة. هاربركولينز. 2795 دولارا]، يخبرنا هايز عن عائلة تشيني الجالسة أمام جهاز التلفزيون الجديد ذي الشاشة الكبيرة في جاكسون هول، بولاية وايومينغ، في 4 يوليو لمشاهدة فيلم The Peacemaker الصادر عام 1997. الفيلم من بطولة جورج كلوني ونيكول كيدمان، ويروي قصة مؤامرة لتفجير نيويورك بقنبلة نووية. خلال الفيلم، دخلت زوجة تشيني، لين، الغرفة وسألت ماذا يجري. لم يكن السؤال موجها لشخص محدد غير أن نائب الرئيس انطلق في "عرض مختصر لأحداث الفيلم مشهدا تلو الآخر طوال عشر دقائق"، كما يقول شقيق لين، مارك فينسنت. فقاطعته زوجته لتوضيح سؤالها "ماذا يجري الآن؟"
يكتب هايز أن تشيني استيقظ صباح 12 سبتمبر 2001 وهو يسأل: متى الهجوم التالي؟ اسيتقظ عدد كبير من الأمريكيين في ذلك اليوم وهم يطرحون السؤال نفسه، لكن في حين أن الكثيرين منهم غرقوا في شبه إذعان للأمر الواقع، لم يكف تشيني قط عن القلق والتساؤل ـــ ويجب أن نقر بذلك ـــ عن محاولة فعل شيء حيال الأمر. أصبح نائب الرئيس نبي شؤم في الزمن الحديث. يعتبره عدد كبير من الأمريكيين مخيفا بعض الشيء، إن لم يكن مشؤوما. بالتأكيد، قد يكون محقا: ربما يستعد تنظيم القاعدة، بحسب ما تشير إليه التقارير الاستخباراتية الأخيرة، لشن هجوم آخر وأكثر كارثية على الأرجح. لكن ما الذي يجعل تشيني كئيبا هكذا يحركه غم شديد؟
لن تجد تفسيرا سيكولوجيا في كتاب هايز الجديد. فهايز الذي يكتب في مجلة ويكلي ستاندرد المحافظة يبتعد إلى حد كبير عن الانتقاد، ويصدّق صورة تشيني الزينوني في إشارة إلى محارب يوناني قديم يرى الأقدار تتحضر لكنه يواجهها بعزم وشجاعة. ويروي هايز حادثة أخبره إياها ديفيد بوهرر، المصور الرسمي لنائب الرئيس، عن تشيني خلال قيامه باختبار قيادة على طريق في بلتسفيل، بولاية ماريلاند، مع الاستخبارات السرية التي كانت تعلمه كيف يقود للهروب من الإرهابيين عبر الرجوع بسرعة إلى الوراء والانعطاف. لكن تشيني، الذي لم يقد سيارة منذ نحو سنتين، رجع بسرعة بسيارة الشفروليه كامارو وضغط على دواسة البنزين لتبلغ سرعته نحو 40 ميلا في الساعة ثم ضغط على المكابح بقوة لتنعطف السيارة 180 درجة. كان بوهرر قد وضع كاميرا على حاجب الريح لتصوير وجه تشيني الذي غاب عنه أي تعبير طوال الوقت. "وكأنه يقوم بنزهة يوم الأحد"، كما قال بوهرر لهايز.
غالبا ما يتحدث المسؤولون الاستخباراتيون عن أهمية الاستعداد لـ"أسوأ السيناريوهات". يبدو تشيني وكأنه مستعد دائما للأسوأ. ربما تعلم عدم الاتكال على الحظ الجيد بعدما خسر منحته الدراسية في جامعة ييل. ولدى طرده مرة ثانية، عاد تشيني إلى وايومينغ وأُوقًف مرتين بسبب القيادة تحت تأثير الكحول. يقول هايز إن تشيني شعر دائما بالولاء لدونالد رامسفيلد لأن الأخير أقنع الرئيس جيرالد فورد بالتغاضي عن حماقات تشيني في شبابه عندما كان اسمه مطروحا لخلافة رامسفيلد في منصب كبير الموظفين في البيت الأبيض. في سنوات فورد، بدأ القلق يراود تشيني لأول مرة بشأن مسائل "استمرارية الحكومة"» ماذا يحصل إذا "خُلًع" رأس الحكومة الأمريكية. والتهديد النووي الذي شكلته الحرب الباردة ومحاولتا الاغتيال الفاشلتان اللتان استهدفتا الرئيس فورد هي في الأساس بعض المشاغل التي أقلقت تشيني في البداية إنما ليس كلها. وفي الوقت نفسه، كوّن تشيني لأول مرة إيمانه بوجوب تثبيت السلطة التنفيذية» الحاجة إلى رئيس قوي لإنقاذ البلاد خلال الأزمات. مجددا، تقف الأزمنة المضطربة وراء بعض المخاوف التي تراود تشيني» قوضـت فضيـحة ووترغيت سلطة البيت الأبيض. لكن هل كانت هناك هواجس أعمق على الصعيد الشخصي مصدرها ربما الشعور بالفناء الذي راوده بعد إصابته بالسكتة القلبية الأولى بسن الـ37؟
خلال ثلاثين ساعة من المقابلات، لم يستطع هايز أن يحمل تشيني على البوح بالكثير عن أفكاره أو مشاعره. (لا بد من أن كتاب هايز السابق عن "تواطؤ" القاعدة مع صدام حسين سهّل وصوله إلى نائب الرئيس الذي يشتهر بأنه قليل الكلام). لكنه استطاع أن يحمله على الإقرار بارتكاب خطأ في كلام نسمعه ربما لأول مرة من مسؤول في إدارة بوش. يقول تشيني لهايز في مراجعة للحسابات، إن آلية الحكم في العراق بعد الحرب كانت فاشلة. كان حري بالإدارة الأمريكية أن تدع العراقيين يحكمون أنفسهم منذ البداية. قال تشيني: "أظن أن سلطة التحالف المؤقتة كانت خطأ. لقد أهدرت وقتا قيما". ومن المقابلات الأخرى التي أجراها هايز، يمكننا الحصول على لمحة عن عالم تشيني المهووس بالتهديدات لاسـيما بعد 11 سبتمبر.
لم يستوعب معظم الأمريكيين كم أن الخطر بدا وشيكا وكبيرا، على الأقل بالنسبة إلى من يقرأون المعلومات الاستخباراتية الواردة. تحت تأثير الضغوط لإعداد شيء ـــ أي شيء ـــ عن التخطيط الإرهابي، أغرقت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) البيت الأبيض بالمعلومات الاستخباراتية الخام، ومعظمها مشكوك فيها أو خاطئة وحسب، لكنها مرعبة في مجملها. في مرحلة ما، اعتقد المسؤولون الأمنيون أن منزل إليزابيث تشيني، ابنة نائب الرئيس، تعرض لهجوم بالجمرة الخبيثة. فكان على إليزابيث استدعاء الحاضنة لتصطحب الأولاد إلى "المركز التجاري" على حد قولها» لإجراء اختبار لهم ومعـرفة إذا كانوا قد تعرضوا للمادة.
في مقابلة تكشف الكثير، قالت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس (التي كانت آنذاك مستشارة الأمن القومي في إدارة بوش) لهايز: "كان [تشيني] يقرأ كل التقارير الاستخباراتية. كان يقرأها كلها حتى التقارير غير المهمة. وكنت أشعر بأنني أفقد صوابي لأنني لم أكن أعرف كيف أفعل ذلك» في ذلك الوقت لم يكن لدينا نظام جيد لفرز المعلومات الموثوقة وغير الموثوقة. كنا نحصل على تقارير خام عن كل المعلومات التي ترد. وأذكر أنني قلت في نفسي إن لديه ذاكرة استثنائية... يخزن فيها كل هذه الأمور".
تشيني مستهلك استخبارات متمرس جدا، ويشتهر بأنه ضليع في هذا المجال، ويقال أيضا إنه لا ينخدع أو يصاب بالذعر بسهولة. إذن لماذا خُدًع من أمثال كورفبول، العميل الذي باع الاستخبارات الأمريكية التقرير الخطأ بأن العراق يملك مختبرات نقالة للحرب البيولوجية؟ لا جواب في كتاب هايز. ربما يستحيل أن نعرف ما الذي يجول في ذهن رجل طلب في صباح 11 سبتمبر من المقاتلات الأمريكية إطلاق النار على الكثير من الطائرات المدنية. (بدلا من ذلك، أنزل الركاب إحدى هذه الطائرات، رحلة يونايتد 93). لكن من الواضح أن تشيني ينظر بتشاؤم من خلال زجاج. يذهب لاصطياد السمك كلما استطاع ويتكلم قليلا. إذا نطق، فقد يقول إنه يقلق كثيرا إلى درجة أنه يمكننا نحن الباقين أن ننام. لكن من الممكن أيضا أنه عبر ضرب شياطين متوهَّمة، يخلق شياطين حقيقية.